كتابة: خالد الشهري (@khaled_energy، الموقع الشخصي)، أحمد الأحمد (@A7mad_Alahmad، الموقع الشخصي)
مقدمة عن هذه السلسلة
تُعدُّ الكهرباء جزءاً كبيراً من حياتنا اليومية حتى أننا لا نتخيل القدرة على العيش بنفس الراحة والرفاهية بدونها. ورغم أنه في السابق اقتصرت استخدامات الكهرباء على الإضاءة والخدع البصرية إلا أنه ومع التقدم البشري توغل استخدام الكهرباء في جميع ممارساتنا اليومية، فقد تحولت معظم الأدوات التي كانت تعمل على المبدأ الميكانيكي إلى العمل على مبدأ الكهرباء. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أساليب استخراج المياه من الآبار وأعمال الزراعة والحرث، حتى أبسط المهام كسحب المنديل وإنزال الصابون وفتح الأبواب أصبحت الكهرباء تساعدنا فيها!
وبرغم أن مستهلكي الكهرباء يؤمنون بأهميتها إلا أنه يخفى على الكثير منا طريقة عملها وسُبل توليدها وتسعيرها ويخفى علينا كذلك أن الشبكة الكهربائية هي نظام شائك ومعقد فقد تم تصنيفه كأعظم اختراع بشري في القرن الحادي والعشرين. هذه الشبكة تنقسم لعدة فروع، فتبدأ رحلة الكهرباء من التوليد، فهناك طرق ومصادر عدة لتوليد الطاقة الكهربائية، يمكن في المجمل تقسيمها إلى جزئين: الجزء الأول، هو التوليد عن طريق مصادر الوقود الأحفوري (الغير متجددة) كالنفط والغاز والديزل والفحم. أما الجزء الثاني، فهو التوليد عن طريق المصادر المتجددة كتسخير طاقة الشمس عن طريق الشرائح الضوئية أو عن طريق الإشعاع الحراري. كذلك تعتبر الرياح ومساقط المياه والأمواج والحرارة الجوفية جميعها مصادر متجددة للطاقة.
بعد توليد الكهرباء يتم نقلها من أماكن التوليد التي تكون عادةً بعيدة عن التجمعات السكانية إلى المدن والقرى عن طريق شبكة واسعة ومتشعبة وبضغط عالي جداً للحفاظ على كفاءة النقل. قبل أن توزّع الكهرباء على المستهلكين، يتم خفض الجهد مرة أخرى لجعله صالحاً للاستخدام المنزلي ثم نقله عن طريق شبكة أصغر على نطاق المدينة أو القرية وتكون هذه الشبكات عادةً تحت الأرض لأغراض السلامة والحفاظ على المظهر العام للمدينة. عن طريق هذه الشبكات الأرضية تصل الكهرباء للمستهلك النهائي (على مستوى المباني)، ويحدث كل هذا بصورة لحظية وموثوقة تجعل المستهلك متأكداً أنه يستطيع أن يحصل على الإضاءة أو التبريد متى ما شاء. وبلا شك، فإنّ هذه الرحلة اللحظية، ومع امتدادها لآلاف الكيلومترات بطقوس وتضاريس مختلفة تعتمد على عمليات حسابية حساسة وسريعة وعملية لا تحتمل الأخطاء. كل فرع من هذه الفروع (التوليد والنقل والتوزيع) هو جزء أساسي لبناء شبكة كهربائية متكاملة يضمن فيها العميل سلامة وموثوقية توصيل الكهرباء.
ومع التقدم العلمي والمتغيرات في الشبكة، كازدياد الطلب على الكهرباء وتوسع الشبكة وتغير نوع الأحمال وطبيعتها، ظهر مفهوم شبكات الكهرباء الذكية (smart grids). وهو مبدأٌ يفتح أفاق واسعة لتفعيل والاستفادة من تقنيات ناشئة مختلفة، كالسيارات الكهربائية وأنظمة التحكم بالأحمال الذكية والطاقة المتجددة، كطاقة الشمس والرياح والأمواج. لكن هذا المفهوم وبرغم جلبه لعديد من المزايا التي تزيد من موثوقية الشبكة وترفع وكفاءتها الاقتصادية، إلا أنّه سوف يزيد من تعقيد إدارة الشبكة الكهربائية. لذلك يعكف الباحثون على سُبل تحقيق هذا المفهوم من دون الإضرار بالمنظومة الكهربائية ككل أثناء التحول إلى هذا المفهوم الذي يمس الشبكة الكهربائية على جميع الأصعدة: التوليد، والنقل، والتوزيع.
في هذه السلسلة، نصب تركيزنا على تطبيقات قريبة للمستهلك الأخير للكهرباء (المنازل، الشركات، المصانع، الخ) بما في ذلك النواحي المتعلقة بالفاتورة. آخذين بعين الاعتبار قدرات الذكاء الاصطناعي في تطوير هذه التطبيقات وتمكين المستهلك من الاستفادة القصوى لها.
وقبل أن نغوص في هذه التطبيقات وما تعود به على المستهلك والشبكة ككل، نشرح في الأقسام القادمة من هذا المقال وبشكل عام وسهل بعض الأساسيات عن الشبكة الكهربائية التي تجعل القارئ ملماً بمبادئ الشبكة الكهربائية.
ماهي الأسس والعوامل الفيزيائية التي تميز شبكات الكهرباء؟
يُقاس استهلاك الكهرباء بوحدة معرّفة، فكما يقاس استهلاك المياه باللتر، والغاز بالمتر المكعب، والملح والأرز وباقي الأطعمة بالكيلو، يقاس استهلاك الكهرباء بالكيلووات/ساعة، وهو متوسط استهلاك الطاقة الكهربائية للساعة الواحدة.
عملية تبادل الكهرباء بين شركات توليد ونقل وتوزيع الطاقة والمستهلك النهائي هو ما يعرف بسوق الكهرباء. هذا السوق يختلف عن أسواق السلع الأخرى بشدة وهو بحق سوق حديث ومتفرد ولأسباب مختلفة، منها:
١– التوازن التام بين العرض والطلب (التوليد والاستهلاك): شبكة الكهرباء تحكمها عدة قوانين فيزيائية تتطلب التوازن اللحظي للتوليد والاستهلاك، وأي خلل في هذا التوازن قد يعني فقدان جزء كبير من الشبكة، وبالتالي فقدان التيار لمجموعات من المستهلكين. وقد يحدث الأسوأ وهو تلف بعض الأجهزة باهظة الثمن في الشبكة كالمولدات والمحولات وخطوط النقل.
٢– صعوبة وارتفاع كلفة خزن الكهرباء: خزن الكهرباء صعب جداً، وذلك يعود لأسباب اقتصادية وأسباب تتعلق بتوفر المواد المستخدمة للخزن كالليثيوم والكوبالت. ولهذا فإن كمية الكهرباء المولدة يجب أن تستهلك في مكان آخر في نفس اللحظة. موضوع خزن كميات الطاقة الضخمة بكفاءة عالية وبسعر مناسب هو موضوع نشط جداً في مجال الأبحاث، وعلى رأس الجهات التي تعكف على مثل هذه الأبحاث هي جامعة ماستشوستس وشركتا تسلا ولوسيد الأمريكيتان.
٣- اتجاه سير ونقل الكهرباء: نقل الكهرباء عملية معقدة تعتمد على العوامل الفيزيائية للشبكة، وقد تختلف أسعار الكهرباء من مكان لآخر في نفس الشبكة بسبب هذه العوامل. وبسبب هذه العوامل الفيزيائية قد تنتقل الكهرباء من الأماكن التي يكون فيها سعر الوحدة مرتفع إلى أماكن ذات أسعار أقل، وهو ما يخالف طبيعة جميع الأسواق الأخرى.
على ماذا تُبنى تسعيرة الكهرباء، وما الذي يربطها بالشبكات الذكية؟
في سوق الكهرباء وكما هو الحال في معظم الأسواق، توضع الأسعار بناء على التكاليف بالإضافة إلى هوامش الربح. ولأن الكهرباء سلعة متفرّدة، نحتاج إلى تعريف التكاليف التي تواجهها الشركات المولدة وبالتالي يُبنى عليها تسعير الكهرباء للمستهلك النهائي. وهذا يعتبر تمهيد لتطبيقات علم البيانات والذكاء الاصطناعي بما يخص الجوانب الاقتصادية لشبكات التوزيع واستهلاك الفرد:
١- تكاليف احتياطي الطاقة: وهي التكاليف لإنشاء مولدات احتياطية وسعة توليد أكبر لزيادة الاعتمادية والموثوقية للشبكة لتمكينها من مواجهة أي أحمال جديدة ومفاجئة.
٢ – تكاليف الطاقة: وهي التكاليف المصاحبة لمتوسط الاستخدام في الشبكة. الجزء الأكبر من هذه التكلفة هو الوقود المستخدم للتوليد (نفط خام، غاز، فحم)، ويدخل فيها كذلك تكلفة صيانة المولدات.
٣ تكاليف خدمات العميل: وهي تكلفة توصيل الكهرباء للمنازل وخدمات تركيب وقراءة العدادات وكذلك خدمات الفوترة.
رغم أننا في المملكة نواجه تسعيرة كهرباء ثابتة طوال اليوم والشهر والعام، ولكن في الواقع السعر الفعلي للكهرباء يتذبذب بشكل سريع وربما قوي في الثانية بل وأجزاء الثانية. ويؤثر على أسعار الكهرباء أمورٌ عدة تتعلق بالوقود المستخدم، حالة محطات التوليد، خطوط النقل، والطقس وغيرها. أضف إلى أنه وفي حالة استخدام الطاقة المتجددة بشكل مكثف، تزيد سرعة تغير تكلفة انتاج الكهرباء، بسبب طبيعة تذبذب الطاقة الناتجة لهذه المصادر مما ينعكس في نهاية الأمر على السعر المحدد للاستهلاك الكهربائي، وبالتالي ارتفاع الفواتير. ولتقليل شدة تغير السعر في سوق الكهرباء تلجأ بعض المنظمات المسؤولة عن سوق الكهرباء إلى إضافة المزيد من وحدات التوليد تحسباً لأي زيادة مفاجئة في الطلب. لكن إضافة هذا الوحدات يتطلب مشاريعاً استثمارية عملاقة وضخ أموال طائلة لبنائها وربطها وصيانتها، مما يسهم في زيادة سعر الكهرباء الذي يواجهه المستهلك. لهذا السبب، فكرت بعض الشركات بالعمل على الطرف الآخر من المعادلة وهو التعامل مع الأحمال عوضاً عن التوليد، وهذا ما سنناقشه فيما يلحق.
مفهوم “إدارة الأحمال” وكيفية إسهامه في خفض الفاتورة
أحد أهم خواص الشبكات الذكية هي التغيرات الجذرية في طريقة إدارة أحمال الكهرباء. لعقود من الزمن، اعتاد مهندسي الكهرباء على التعامل مع المستهلك الغير نشط، فلم تكن هنالك تقنيات تمكّن من تفاعل المستهلك وتعزز قدرته على الاستجابة للأسعار. أما في الوقت الحاضر ومع التقدم العلمي في أجهزة قياس الأحمال، أصبح تبادل المعلومات الثنائي في الشبكات الذكية بين العميل وشركة الكهرباء يخلق وفرة من البيانات القابلة للتحليل، والتي تسمح لهذه الشركات فهم مستهلكيها ومساعدتهم على خفض التكاليف، بالإضافة إلى التعامل مع التحديات الجديدة الناتجة عن عشوائية مصادر الطاقة المتجددة.
من المتعارف عليه عند الباحثين في شبكات الكهرباء الذكية وجود برامج تقدمها شركات الكهرباء متعلقة بالفواتير، وقد لا تؤثر على التسعيرة، لكنها تساعد في ترشيد الاستهلاك وتخفيف الحمل على الشبكة خصوصًا في أوقات الذروة. فمثلاً، بعض شركات الكهرباء عالميًا (ومنها الشركة السعودية للكهرباء مؤخراً) تعرض على المستهلك الفاتورة الثابتة، وهي طريقة غير مباشرة تساعد وتشجع على ترشيد استهلاك الكهرباء. إذ أن المستهلك في نهاية كل شهر يحصل على تقرير يقارن استهلاكه الفعلي بالفاتورة الثابتة، فعندما يزيد استهلاكه يكون لديه محفز لتقليل الاستهلاك في الأشهر القادمة. حيث أن الفاتورة الثابتة تكون مدروسة بناء على حالة المبنى ومعدل الفواتير السابقة لنفس العداد. مثلًا: شركة Ameren Illinois بالولايات المتحدة تقوم بأخذ معدل الاستهلاك لآخر ٤ شهور.
هذه البرامج تدخل تحت المفهوم الواسع لفكرة “إدارة الأحمال” Demand-Side Management والتي تُعرّف بأنها مجموعة البرامج التي قد تستخدمها شركات الكهرباء لترشيد الاستهلاك بشكل مباشر (عن طريق تعديل التسعيرة مثلاً) أو غير مباشر (عن طريق برامج تحفيزية أو تثقيفية). ويندرج تحت هذه المظلة ما يسمى بـ ” استجابة الحمل” Demand Response، وهي برامج مخصصة لتقليل الاستهلاك بشكل مباشر عن طريق التسعيرات المتغيرة باستمرار، لدرجة أن تكون الأسعار متغيرة بشكل شبه لحظي (كل ٥ دقائق مثلاً) كما تم تجربته في الدنمارك مع ٢٠٠٠ مستهلك.
جميع هذه البرامج المتطورة تتطلب عدادات ذكية وأجهزة استخدام منزلي ذكية وديناميكية بحيث تمتلك القدرة على التجاوب السريع مع الإشارات المرسلة من قِبل الشركة والقراءات اللحظية لهذه العدادات. أضف إلى أن القراءات اللحظية للاستهلاك تفتح مجال واسع لتحفيز المستهلك الأخير للكهرباء على ترشيد الاستهلاك وتساعد شركات الكهرباء على تصميم برامج تحفيزية مناسبة لتحقيق الترشيد المطلوب. كما أن العدادات الذكية تفتح المجال لتوليد بيانات ضخمة وتمكّن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر في إدارة وتشغيل شبكات الكهرباء. وفهم المستهلك واحتياجاته ونمط معيشته.
وقد وقّعت الشركة السعودية للكهرباء مؤخراً اتفاقية بتركيب العدادات الذكية لمستهلكي الكهرباء، وهذه الخطوة وبلا شك سوف تكون حجر الأساس في ربط المستهلك بالشركة الموزّعة للكهرباء، خصوصاً مع احتمالية انتشار استخدام الطاقة الشمسية بالمنازل، وهي التي تفتح أفق وتحديات جديدة، نظراً لذبذبتها العالية وتبعات ذلك على إدارة الشبكة. بالإضافة إلى أنها تزيد من صعوبة عملية التخطيط والتشغيل للشبكة الكهربائية، بحكم أن توقع الحمل (demand forecasting) يصبح مهمة أكثر تعقيداً.
حتى هذه اللحظة، لم نتطرق بشكل مفصل وبشكل مُسهب عن أي تطبيق للذكاء الاصطناعي في شبكات الكهرباء، بحكم أننا وجدنا أن التمهيد ببعض المعلومات عن شبكة الكهرباء ضروري لفهم هذه التطبيقات بعمق. في الجزء الثاني من هذه السلسلة، سيُسلّط الضوء- بحول الله- على بعض تطبيقات وأبحاث الذكاء الاصطناعي التي سوف تخلق أبعاداً جديدة لمفهوم الشبكة الحالي مما سيمكن المنظمين والمشغلين والمستهلكين في هذه الشبكة الفريدة من تحقيق مفهوم الشبكات الذكية وتسخيره لجعل الكهرباء سلعة أكفأ وأذكى وأسهل وصولاً للمستخدم النهائي.